هل كانت معصيةُ آدم عليه السلام في الجنة هي مجردَ الاقتراب من الشجرة كما قال الله تعالى: «ولا تقربا هذه الشجرة»، أم أن المعصية كانت حين أكَل منها؟
وإذا كان النهي عن الاقتراب، فهل يُعدّ الأكل ذنبًا آخر؟
وهل كانت العقوبة مضاعفةً لأن المخالفة كانت في أكثر من فعل (الاقتراب، التذوّق، الأكل)؟
ثم كيف يُعقل أن آدم عليه السلام، وهو نبيٌّ يعرف عداوة إبليس، استمع إليه ووقع في المعصية؟
كما قال تعالى"وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ"(البقرة: 35)
جملة "لا تقربا" في اللغة العربية لا تعني فقط الاقتراب المكاني، بل تعم حتى مقدمات الفعل، أي النهي عن كل ما يؤدي إليه. كما في قوله تعالى:"وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا" و من نظائر ذلك آيات عدة منها "وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" و قوله تعالى : "وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ"
أي لا تفعلوا شيئاً من شأنه أن يقودكم إلى الزنا . فالزنا لا يقع دفعة واحدة بل بما له من مقدمات عادة، كالنظرة و المزاح و الخلوة و باقي المقدمات حتى يصل الأمر الى الزنا.
من البديهي عرفاً أن النهي عن الإقتراب من الشجرة يدل على النهي عن الأكل منها أيضا بالأولوية, ثم إن مما يجب الإلتفات إليه في المقام أن آدم لم يكن يتوقع أن يُقسم أحد بالله كذباً، و قد جاء في قوله تعالى: «وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين» (الأعراف: 21).
فآدم لم يعرف الكذب بعدُ، ولم يخطر بباله أن أحداً يمكن أن يحلف بالله زوراً و كذبا، فخُدع بيمين إبليس حينما ظنه صادقاً بعد أن كان قد نسي ما حذره الله تعالى منه.
فهاتان الصفتان و هما النسيان أن إبليس هو عدوه المبين، وحسن الظن بالقسم بالله كانتا السببين المباشرين في وقوعه في المعصية، لا التمرد أو الجحود، ولذلك قال تعالى بعد الحادثة: «ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى» (طه: 122).
ومن هنا نفهم أن نزول آدم إلى الأرض لم يكن عقاباً، بل كان تنفيذاً للغرض الإلهي من خلقه، حيث قد خلقه الله تعالى من البداية للخلافة الربانية على الأرض لقوله تعالى: «إني جاعل في الأرض خليفة». فنزوله كان تجهيزاً له ليكون منتبهاً في موقع التكليف بأن له على الأرض عدواً مبينا ، فالجنة ليست دار تكليف بل الدنيا هي دار التكليف. وجعل الله تلك الحادثة تنبيهاً وتربيةً له قبل القيام بما عليه من عظيم التكليف كخليفة لله تعالى ليأخذ حذره من العدو، وليتهيأ لمقام الخلافة الذي اصطفاه الله لها بعد التوبة.
أما معنى ضعف العزيمة
في قوله تعالى: «ولم نجد له عزما» لا يعني أنه كان متمرّدًا أو متعمّدًا،
بل أنه ضعُف عن الثبات على العهد حين وسوس له العدو.
فهو ذنب نسيان وضعف بشري لا تمرّد شيطاني.
ولهذا لم يُوبَّخ بعبارات التمرّد كما وُبِّخ إبليس، بل تابَ عليه واجتباه الله بعد ذلك.
بعض النقاط المهمة :
في قوله «تكونا ملكين» فإنه يشير إلى الخلود.فالخلود الذي طمح إليه آدم هو الخلود في النعيم المكاني، لا الخلود الوجودي للروح. أي الخلود بتمام بُعده الإنساني بما يناسب كل عالم من العوالم و الى أبد الآبدين حركة من الله تعالى و إليه.
النهي عن الاقتراب يشمل النهي عن الأكل لكنه لا يعني تعدد الذنب.
معصية آدم كانت سهوًا أو تركًا للأولى لا تمرّدًا.
وسوسة إبليس استندت إلى يمين كاذبة لم يعرف آدم مثلها بعد.
نزول آدم إلى الأرض مرحلة انتقال في مسار الخلافة الإلهية لا عقوبة.
اجتباء الله له بعد المعصية دليل على كمال القابلية والاستعداد للنبوة.
رواية في ما يناسب هذا المقام و شرح النقاط المهمة في نهاية الرواية:
البحار الجزء ١١
حَضَرْتُ مَجْلِسَ الْمَأْمُونِ وَ عِنْدَهُ الرِّضَا عَلِيُّ بْنُ مُوسَى(ع)فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ أَ لَيْسَ مِنْ قَوْلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ قَالَ بَلَى قَالَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَ
وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى
فَقَالَ(ع)إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى قَالَ لآِدَمَ- اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ وَ أَشَارَ لَهُمَا إِلَى شَجَرَةِ الْحِنْطَةِ-فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ
وَ لَمْ يَقُلْ لَهُمَا لَا تَأْكُلَا مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ وَ لَا مِمَّا كَانَ مِنْ جِنْسِهَا فَلَمْ يَقْرَبَا تِلْكَ الشَّجَرَةَ وَ إِنَّمَا أَكَلَا مِنْ غَيْرِهَا لَمَّا أَنْ وَسْوَسَ الشَّيْطَانُ إِلَيْهِمَا
وَ قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ
وَ إِنَّمَا نَهَاكُمَا أَنْ تَقْرَبَا غَيْرَهَا وَ لَمْ يَنْهَكُمَا عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا-
إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ
وَ لَمْ يَكُنْ آدَمُ وَ حَوَّاءُ شَاهَدَا قَبْلَ ذَلِكَ مَنْ يَحْلِفُ بِاللَّهِ كَاذِباً- فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ
فَأَكَلَا مِنْهَا ثِقَةً بِيَمِينِهِ بِاللَّهِ وَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ آدَمَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِذَنْبٍ كَبِيرٍ اسْتَحَقَّ بِهِ دُخُولَ النَّارِ وَ إِنَّمَا كَانَ مِنَ الصَّغَائِرِ الْمَوْهُوبَةِ الَّتِي تَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا اجْتَبَاهُ اللَّهُ وَ جَعَلَهُ نَبِيّاً كَانَ مَعْصُوماً لَا يُذْنِبُ صَغِيرَةً وَ لَا كَبِيرَةً قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَ وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى.
و هنا بعد الرواية لابد من التأمل في بعض النقاط:
النقطة الأولى: الإمام الرضا (ع) يوضح أن الله تعالى قال: (ولا تقربا هذه الشجرة)
ولم يقل (ولا تأكلا من هذه الشجرة)
فالنهي كان عن الاقتراب من شجرةٍ معينة، لا عن الأكل من جنسها كله.
فآدم لم يأكل من نفس الشجرة المنهي عنها، بل من شجرة أخرى من جنسها (أي من نفس النوع).وهنا وقع في التباس التأويل، وليس في العصيان المتعمد، ولذلك كان فعله تركًا للأولى لا معصية كبيرة.
النقطة الثانية: آدم لم يعرف الكذب من قبل، ولم يظن أن أحدًا يمكن أن يحلف بالله كذبًا،
ولذلك صدّق إبليس حين أقسم بالله لهما.
الإمام الرضا (ع) يشرح أن هذا العصيان كان قبل النبوة، أي قبل أن يُجتبى آدم ويُجعل نبيًا. ففي تلك المرحلة لم يكن التكليف بعدُ تكليف نبيٍّ معصوم، بل تكليف إنساني ابتدائيٌّ يُراد به التمرين والتمحيص.
ولذلك قال الإمام (ع):وكان ذلك من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم.أي أن هذا الفعل لم يكن ذنبًا كبيرًا يستوجب النار، بل هفوة تربوية في طور التعليم الإلهي.
قصة آدم عليه السلام من القصص العجيبة التي فيها الكثير من الحكم و التعاليم المخفية و لهذا تكررت كثيراً في القرآن الكريم لينتبه و يفكر الإنسان فيها.
هدى محمد كاظم الخاقاني
تدقيق و تعديل الأستاذ الشيخ محمدكاظم الخاقاني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق